طمعان والمسقوي- بين الوصية والمال الحلال

المؤلف: علي بن محمد الرباعي11.13.2025
طمعان والمسقوي- بين الوصية والمال الحلال

الفقيه ذو الفطنة الوقادة، تفحّص «طمعان» بعين فاحصة، وهمس قائلاً: "أرى فيك نبوغاً مكبوتاً يا طمعان". وأضاف: "منذ أن غادر جموع المصلين ساحة المسجد، وأنت لا تنفكّ تعبث بلحيتك الضافية، وكأنك أطلّ عليك جنيّ من جوف الأرض، ونحن لم ننته بعد من ترتيل التشهد!".

«طمعان» لم يطل التأمل، فأطلق زفرة مكتومة من أعماق فؤاده، فاستشاط الفقيه فضولاً وسأله: "ما بالك تزفر؟". فأجابه «طمعان»: "أجد سلوتي في الزفرة". فقال الفقيه: "من تخالج فؤاده هواجس، فليبُح بها قبل أن تفتك به". فارتد «طمعان» قائلاً: "دعني ساكناً". فعقب الفقيه، وهو رفيقه الحميم: "الساكت لا يعلم أحد مراده ومبتغاه".

تلفّت «طمعان» ببصره يمنة ويسرة، وتأكد أنه لم يبق في المسجد سواه والفقيه، فمشى على ركبتيه حتى تلاصقتا، فانسحب الفقيه إلى الوراء داخل تجويف المحراب، وألصق ظهره بالجدار، فابتدر «طمعان» قائلاً: "أخشى أن يصاب كوتك بالحساسية من التراب وعش الدبابير". فردّ الفقيه عمامته على أنفه وهو يتمتم: "أفوه يا ريح فمك يا رفيقي! ليصب كوتي ما شاء، ولا تعميني رائحة أنفاسك التي تعمي الطيور، كأنها رائحة جوف الضبع!". فأقسم له «طمعان»: "ما أفسد رائحة فمي إلا الوصفة التي وصفتها لي دواءً لمغص (المِسْكة)". علّق الفقيه: "الوصفة قد عتق عليها الدهر، ولكن يبدو أن بطنك عليل، يحتاج إلى (سنا مكّي) يطهره، وأنت لم تُتح لك الفرصة بعد لتنظيف جوفك!". فتبادلا الضحكات حتى كادا يقعان على وجوههما.

قال «طمعان»: "الشيبة لم يعد منه إلا أنفاسه، وآخي صدّاق بني طويرة، رفيق دربه، معه (سُكْنيّة) تقوده بأذنه، كما جمل السمسم، مغمغم على عينيه، ويدور بخشبة المعصرة، وأخشى لو فقد بصره، أن يقاسمني في (المسقوي)، وينعم بخيراتها وأنا أتجرع مرارة الحسرة!". وأردف: "وتعرف أخو مرته (شثّان) لا يبالي بحلال أو حرام".

دفعه الفقيه من كتفه طالباً منه أن ينصرف بعيداً عنه، واستفهم منه: "ما حاجتي إلى أحاديثك المبهمة المنمقة؟". فأجابه: "معي لك عشرة جنيهات جورج، جديدة لم تُمس، وتكتب على الشيبة أنه باعني؟!". وثب الفقيه واقفاً وهو يردد: "أنا في وجه الله من البور، والشور الطائش، وكتابة الزور!". فجبذه «طمعان» بأسفل ثوبه، وبرّكه كما يبرّك الجمّال جمله بزمامه، وقال: "يساني ما يساك، ما ضحكت على إخوانك، وجعلت أباك يهب البلاد كلها لأولادك، وإخوانك قلوبهم حزينة وعيون الضعفاء شاخصة إلى السماء!". وأضاف: "أتريدني أن أفرغ محتويات بطني فوق رأسك، وأمزق أمعائك، أم تسدّ فمي؟". افتكّ الفقيه ثوبه من كفّه الغليظة التي تشبه خُفّ البعير، وسأله: "من يشهد معنا؟".

سكنت القرية في ليلة تعجّ فيها العواصف؛ كأنها تودّ أن تقتلع المصاريع من أماكنها، والأشجار من جذورها، فدقّ المذّن باب الشاعر، وقال: "أظهر لي". فخرج عليه وقد عصب رأسه بمعصب زوجته، فأخبره أن «طمعان» يحتاجهم في بيت الفقيه، فقال: "أأذهب ورأسي يؤلمني بشدة؟". فقال المذّن: "ضع معصب أم قارح مكانه". فضحك الشاعر، وطلب منه أن يسبقه وهو سيلحق به، وعندما تجمعوا حول حِرانة الملّة، وتأكدوا أن كهلة الفقيه تتضرع للملائكة دعاءً، قال الفقيه: "الكلام عندك يا طمعان". فردّ عليه: "لا والله إلا عندك يا مبرئ ذممنا من النار!". فالتفت المذّن في الفقيه ولمح في عينيه نظرة استنكار، ومدّ الشاعر قدميه بالقرب من وارية القرض، فقال الفقيه: "ترى أبو طمعان، وقنعان، باع لطمعان البلاد (المسقوي)، وهذه بصمته في هذه الوثيقة، وما بقي إلا أن تشهدوا، وأمام الله لا تجحدون". فقبّض الشاعر ساقيه، وقال: "إذا كنتم تجرؤون على الله، فأنا لا أجرؤ، وتكفيني ذنوبي الكثيرة، وما ألوث ذمتي في آخر عمري بالفرية على أبيك بشيء ما قاله، ولا خطر على باله، عساكم لا تنكفون لا أنت ولا إخوانك!". وقام وتركهم. فقال «طمعان»: "الله لا يردك يا نخلة الشيص، ويا متحضن النيص!".

بصم «طمعان» بإبهامه تحت اسم الشاعر، موصياً الفقيه والمذّن بحفظ السر، وحلف: "لئن عُلم أو عُلّم أن واحداً منهم نطق بكلمة، ليشتكي عند العريفة الذي لا يعرف إلا أن يطلي وجه شاهد الزور بالقطران". فأقسم الفقيه: "ما يفيح منا لا ريح ولا قبيح". فقال «طمعان»: "أما الريح طلبناك يا كرشان!".

مات شيبتهم، وأقسم «طمعان» لأخيه «قنعان» أنه اشترى من أبوه بماله الحلال، وقال: "يا أخي خذ العثّري باللوز والتين وبركة الميّتين، ولك عليّ (شطر) ما يعطي ربي من (المسقوي) من مطعوم عيال؛ والا عُلفة حلال". فقال «قنعان»: "دعني أشاور؟". ردّ عليه: "شرع ربّي ما حد يشاور فيه!". سمعته (السُكْنيّة) فطلبت منه يمين الله، وبغى يحلف فقالت: "اصبر"، وخرجت به إلى الساحة، وخطّت بأصبعها في التراب دويرة، وقالت: "عدّ وسطها واحلف". فعدّى، واحتطت عمامته من فوق رأسه، فبدأت تلقنه وهو يردد: "يمين ودين برب العالمين، قاطع المال والذريّة والعصبة القويّة ما لكم في (المسقوي) ضربة مسحاة". علّقت: "الله يجعلها تحيط بك".

تسامعت القرية أن الحكومة ستفتح طريقاً سيخترق القرية، وسيصرفون تعويضات بالملايين، فصار «طمعان» إذا صلّى رفع كفيه للقبلة ودعا: "يا الله اجعلهم يحطون الطريق من قلب (المسقوي)". افتتحوا الخط، وهاجر «قنعان» بخمسة ملايين إلى مكة، وبنى بيوتاً وسكن وأجّر، وخرج في الصيفية يزوّج ولده، وسكن في بيت «طمعان»، وكسّى الجماعة عمايم، وزوجته أهدت للنسوان بيوت مخدات، وسراويل خط البلدة، وللأطفال حمبص وحلاوة عسليّة.

رزّوا المعراض، ودق الزير وأقبل الشاعر بمشلح باهت لونه، وبدع:

كان حبّ البلاد البُرّ والا الشعير

يغني البيت وأهله من شهور لحول

لكن العثّري ما هو كما المسقوي

ويوم جتنا معدات تشق الطريق

خلوا الناس وادي الهمّ لعصاة بقعا

والمساقي عليها تضحك العثّري

ندر «طمعان» من العرضة وبغى يهدها، وحلف ما يكسون الشاعر المنتّف، وعرف الشاعر نيّته فختم الحفلة: "(الله يا طمعان يقلل أرزاقك، تكسّي الشعار وأنا تخليني، والرزق عند الله ما حال من دونه)". قالوا العرّاضة: "ذقها يا طمعان فإنك تستاهلها". ردّ عليهم: "ما ضرت القتيل طعنة، وإذا بقنعان؛ يكسي الشاعر مشلح وبر وعمامة كورشيّة وخمسمائة ريال، قائلاً: "هذه كسوتك في الميدان، وبكرة نهبط السوق ونقضي لك مقاضي رمضان". فحلف الشاعر ليكملون الحفلة في بيته، وطلب الزير والدفوف، وسروا طول الليل يلعبون، و«طمعان» يبدي من طاقته ويعوّد، وكلما نشدته مرته وشبك ما تمسي ما غير تلوي كما الملقوص؟ فأجابها: "البارح شفت المرحوم في النوم". علّقت بصوت خافت: "الله يجعلك لحوقته".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة